الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

مصر بين الدولة الدينية والمدنية

الدولة المصرية دولة قديمة قدم التاريخ، وهذا راجع إلى ظروف الاستقرار الزراعي على ضفتي نهر النيل في مصر. وكانت الدولة في هذا السياق جهازاً إدارياً ضخماً يدير مجريات الأمور في المجتمع المصري، من خلال فكرة الحاكم (فرعون) ابن الإله، وكون الحاكم المصري آنذاك ابناً للإله، يعني أن المجتمع بأسره يدور في فلك هذا الحاكم ويعمل ويزرع من أجل الحاكم ومجده الشخصي وطموحاته وسعادته. إن إضفاء الألوهية على الحاكم تبرير للاستبداد وتسويغ له، وهكذا وظف الحكام (الفراعنة) الدين لتمرير وفرض استبدادهم.

استقبل المصريون القرن العشرين الميلادي ولديهم تعليم عام وتعليم أكاديمي تمثل في المدارس العليا المتخصصة ثم الجامعة الأهلية، وصحافة تعبر عن مختلف التيارات الفكرية والساسية والاجتماعية، وأحزاب تعبر عن طبقات الأمة المصرية وتوجهاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية، ومؤسسات قضائية، وأدب وشعر ومسرح جديد يعكس ويجسد مشكلات وأحلام وتطلعات المصريين من جهة والوعي الجديد من جهة أخرى وحركة ترجمة عمدت إلى ترجمة ما تيسر من تراث الحضارة الإنسانية الحديثة.

وبذا كانت مصر تسير باتجاه بناء الدولة الحديثة التي بدأها محمد على. نضج الوعي الجديد مع ثورة1919وقيام الوفد المصري بزعامة سعد زغلول، الأمر الذي انعكس لأول مرة في توكيد فكرة وقيمة المواطنة من خلال رفع شعار (الدين لله والوطن للجميع) وهذا اقتراب كبير جداً من مفهوم الدولة الحديثة القائم على مفهوم المواطنة، وهنا أيضاً يتحول المصريون لأول مرة في التاريخ من رعايا هم رهن رضا أو سخط الحاكم إلى مواطنين لهم حقوق قبل أن يكون عليهم واجبات. وتبلور هذا التحول الحاسم في دستور عام 1923 العلماني والذي فيه يتحول أساس الحكم من حكم قائم على أساس ديني إلى حكم مستمد من الأمة، فالأمة مصدر السلطات، أي أنه حكم على أساس فكرة العقد الاجتماعي التي يقوم عليها الحكم في الدولة الحديثة. في هذا المناخ الصحي الجديد بدأت العقول المفكرة تعبد الطريق أمام العقلانية وحكم عقل الإنسان النقدي في مقابل التقليد والنقل والاتباع وإجلال الماضي والتراث بالإطلاق.

في هذا المناخ ظهر كتاب على عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) الذي ذهب فيه إلى أن الإسلام دين فقط وليس دنيا وحكماً، والخلافة الإسلامية ليست من الإسلام وإنما هي ما تواضع عليه من جاءوا بعد رسول الإسلام. فكانت محنة هذا المفكر إذ تصدت له المؤسسة الدينية التقليدية وأخرجته من زمرة العلماء.

وفي عام 1926 م ظهر كتاب طه حسين في (الشعر الجاهلي) الذي نقد فيه التراث على أسس عقلية مستمدة من فلسفة ديكارت العقلانية، وأيضاً تصدى له التيار الديني الأصولي وأجبره على حذف أجزاء محورية من كتابه المشار إليه. وتأسست جماعة "الإخوان المسلمون" الأصولية في عام 1928م كتعبير عن رفض قيم العقلانية والحداثة والعلمانية والليبرالية الوليدة في البيئة المصرية.

محنة على عبد الرازق ومصير كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين وظهور جماعة الإخوان كانت تعبيراً عن وجود وقوة التيار الأصولي في مواجهة تيار الحداثة الذي كان ما يزال وليداً ضعيفاً لم يشتد عوده بعد، وهكذا تأرجحت مصر بين تيار العقلانية وقيم الحداثة من علمانية وتنوير وليبرالية وديموقراطية، هذا التيار الذي كان يطمح إلى تغيير المجتمع والناس حتى تدخل مصر بوابة الحضارة الإنسانية وتصير عضواً في ناديها الكبير، وبين التيار الأصولي الخارج من رحم العصور الوسطى والذي يتمسك بالماضي وأن أساس المجتمع ديني، وبالتالي يرفض المواطنة ويسوغ استبداد الحاكم وظلمه ومن ثم يحارب التيار الجديد ويقاومه بشدة، وفي رفضه وحربه هذه يلعب على وتر الإيمان في نفوس الجماهير فاقدة الوعي والمغيبة عقلياً. وهكذا جاءت الليبرالية كائناً مشوهاً ناقص التكوين، ومع ذلك فهي فترة بها بصيص ولمحات من العلمانية والتنوير والليبرالية وقيم الحداثة والمواطنة.

وجاءت ثورة 1952م والتي كانت في جوهرها ردة كاملة عن التيار الحضاري الناشئ منذ ثورة 1919م وعودة هيمنة الدولة واستبدادها والنظر إلى جموع المحكومين- وهذا هو الأخطر- على أنهم رعايا لا مواطنون وعاد الحاكم ولياً للأمر ووصياً يستبد ويقهر وينكل بكل من يعارضه، فلا حرية ولا ديموقراطية ولا أحزاب ولا مؤسسات فعلية للدولة، وإنما حاكم فرد يفعل ويحكم وفقاً لرؤيته الذاتية. وهكذا عادت مصر القهقري إلى حاكم العصر الوسيط المفوض من قبل الله في صورة حديثة. وإذا كان الأمر كذلك فإبطال إعمال العقل أمر ضروري للحاكم لكي يستمر حاكماً بلا منازع، من هنا الالتجاء إلى الدين وفتح الطريق واسعاً أمام رجال الدين والفقهاء بغرض نشر ثقافة النقل وتغييب العقل وثقافة التواكل والجبرية واستنبات الأصولية في عقول وضمائر المصريين وإدخال أن قيم الحداثة وعلى رأسها العلمانية زيغ وضلال وضد شرع الله في روعهم.

وهكذا خسرت مصر ما ناضلت وكدت وعملت من أجل استنباته في التربة المصرية منذ الحملة الفرنسية ومحمد على وثورة 1919م، ولعل وضعية مصر الآن من تدهور وانحدار وترد على كافة الأصعدة تعبر بوضوح شديد عن المحنة التي يعانيها المصريون[1].

ضياع مستقبل الدولة المدنية في مصر بين استغلال الدين في العمل السياسي، للوصول إلي الحكم، مثلما هو الحال مع جماعة الإخوان المسلمين وغيرها॥ وبين استغلال النظام السياسي، للدين لترسيخ السلطة حتي ولو كانت منفردة، وتحقيقا لأهداف سياسية وحزبية لم تستطع تحقيقها بالوسائل المدنية।

فبعد قرنين كاملين من محاولة إنشاء دولة مدنية حديثة، ما زلنا حائرين في ماهية تلك الدولة وهل هي حقا مدنية، أم دينية. وحين يتوه الجميع في دوامة خلط المفاهيم يصبح المخرج الوحيد هو: “دولة مدنية ذات مرجعية دينية”، أو دولة دينية ذات غلاف مدني.

وفي كل الأحوال تنتعش المؤسسة الدينية في مصر، وتلعب أدواراً مركبة ومتعددة في الحياة العامة، وتتدخل بدرجات متفاوتة في العمل السياسي العام، وتدلي بدلوها، عبر الفتاوى والعظات العامة في أمور مدنية بحتة[2].

تنص المادة الثانية من الدستور المصري على أن «الشريعة الإسلامية هى المصدر الأساسى للتشريع» بعد أن كانت «الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع» وهذا القصر فى المادة بعد تعديلها ـ قصر المصدر على الشريعة الإسلامية ـ هو الذى يفتح الباب للحديث عن الدولة الدينية، مع أن المحكمة الدستورية العليا أفرغت هذا التعديل من مضمونه عندما قالت إن النص يقصد منه مبادئ الشريعة الإسلامية قطعية الثبوت قطعية الدلالة. هذه المبادئ هى وحدها التى تعد المصدر الأساسى للتشريع بعد التعديل. والمبادئ قطعية الثبوت قطعية الدلالة ـ فى غير العبادات- لا تتعدى عدداً محدوداً جداً من المبادئ.والحقيقة أن نصوص مواد دستور ١٩٧١ ـ مجرد النصوص ـ تقيم الدولة المدنية ولا تقيم دولة دينية أو تفتح الباب لها.

توجد بعض الممارسات من جانب البعض في الفترة الأخيرة والتي تعتبر تهديدا للدولة المدنية من هذه الممارسات أو الظواهر انتشار الجوانب السلبية لازدياد المد الديني وإحلال مبدأ الحلال والحرام مكان مبدأ سيادة القانون.. برأت المحكمة التأديبية احدي الممرضات الممتنعات عن تنفيذ أمر التكليف الصادر لها من وزير الصحة من تهمة الخروج علي مقتضي الواجب الوظيفي حيث ثبت للمحكمة أنها ارتكبت هذه المخالفة طاعة لأوامر زوجها‏,‏ وان تغليب طاعة الزوج علي طاعة جهة العمل واجب شرعي[3]‏.‏

الفتوي التي صدرت عن مجلس الدولة‏,‏ والتي تنص علي أن للأزهر الكلمة الأخيرة في أي مسألة تتعلق بالإسلام في الأعمال السمعية والبصرية‏.‏

اغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ‏,‏ والحكم علي نصر أبوزيد بالردة‏,‏ ووصل الأمر بواحد ممن كفروه الي درجة الافتاء بعدم جواز دفنه في مقابر المسلمين‏,‏ علي الرغم من أن نصر صرح بالشهادة عشرات المرات‏,‏ وعلي الرغم من أن الحكم بردته والتفريق بينه وزوجه قد أوقف بحكم مضاد‏,‏ فظل نصر‏,‏ رحمه الله‏,‏ مسلما في نظر القانون والشرع‏,‏ ولم يحدث تفريق قط‏.‏ والعشرات من دعاوي الحسبة القديمة والجديدة التي تقف أمامها الدولة المدنية عاجزة‏.‏

نُسب إلى الدكتور "مفيد شهاب" إنه كان فى ندوة فى ساقية الصاوى، وقال بالحرف الواحد: "ليس معنى إننا دولة ذات أغلبية مسلمة أن تحكمنا الشريعة الإسلامية"، وقد تناقلت هذا الخبر كبرى الصحف القومية والمستقلة والمعارضة فى "مصر"، وأيضًا كثير من المواقع الإلكترونية. ولكن عندما استضيف الدكتور "شهاب" على الهاتف فى إحدى الفضائيات عما نسب إليه انبرى الرجل مكذبًا ومعاودًا التأكيد أن ما نُسب إليه هو الكذب، بل أن الدكتور "شهاب" أصرّ على التأكيد أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسي للتشريع بحكم المادة الثانية من الدستور، بل أضاف بأنه لا يمكن أن ياتى قانون فى "مصر" يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، وأن ما يُترك لغير المسلمين هو فقط أحوالهم الشخصية التى يحتكمون فيها إلى شرائعهم!!

وما قاله "شهاب" يتفق مع ما أكّده الدكتور "فتحى سرور" من قبل عندما أعلن أن المادة الثانية هى خط أحمر لا يجوز المساس به والإقتراب منه!!

في كل الحالات، أسست الدولة العلمانية الحديثة في المشرق ليس على مفهوم فصل الدين عن الدولة، بل بمفهوم سيطرة الدولة على الدين. الدولة المصرية ليست دولة إسلامية ـ دينية، ولم تكن كذلك منذ لحظة ولادتها الثانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكنها دولة حديثة تجهد للحفاظ على تحكمها في الشأن الديني وإدارته، ووضعه لخدمة بقائها واستمرارها.

مهمة الدولة الأساسية الآن هى «حماية واستقرار نظام الحكم» على حد تعبير سامر سليمان فى رسالة الدكتوراه التى قدمها إلى معهد العلوم السياسية بباريس عام ٢٠٠٤، التى قال فيها: «أسوأ شىء يحدث فى مصر الآن أنه لا يحدث شىء على الإطلاق».

بصرف النظر عن النصوص الدستورية مصر دولة مدنية وليست دولة دينية وإنما هي دولة الرجل الفرد، حتى جاز لبعض الناس أن يقول فى وقت من الأوقات «مصر عبدالناصر ـ أو مصر السادات ـ أو مصر مبارك»[4].

[1] رفعت عوض الله، العلمانية ومأزق الدولة المصرية

[2]http://www.doroob.com/?p=27461

[3] http://www.ahram.org.eg/301/2010/09/26/15/40729.aspx

[4]http://saveegyptfront.org/selected-articles/8846.html