الثلاثاء، 9 فبراير 2010

القطاع غير الرسمي

مقدمة:
يمثل القطاع غير الرسمي أهمية خاصة تتضح في جانب منها في حجمه بالنسبة لاقتصاديات العالم بشكل عام، كما تتضح فيما يقدمه من إسهامات لدول العالم الثالث بشكل خاص. فإنتاجه يمثل 27% من إجمالي الناتج المحلي في الولايات المتحدة الأمريكية، و 20% في إيطاليا، و 10% في السويد، و 8% في المملكة المتحدة . بينما هو، في الدول النامية، لا يقل عن ثلث النشاط الاقتصادي تقريبا.
ويمثل القطاع غير الرسمي المصدر الأول لامتصاص الداخلين الجدد في سوق العمل من الشباب في الدول العربية؛ ويبلغ حجم التشغيل في القطاع غير الرسمي 61% من إجمالي التشغيل بالدول العربية[1]. وقد قدرت إحدى الدراسات حجم الاقتصاد الخفي في مصر (الذي يضم في داخله القطاع غير الرسمي) خلال الفترة من 1971-1981 بنسبة 22.5% من الناتج المحلي الإجمالي[2]. وقد قدر تقرير حديث عن التنمية الاجتماعية في مصر حجم القطاع غير الرسمي بأنه يستوعب أكثر من خمس القوى العاملة، ويشمل أكثر من 370 ألف رب عمل[3]. وقد قدرت نسبة الوحدات الاقتصادية غير الرسمية بما يقرب من 82% من إجمالي الوحدات صغيرة الحجم عام 1998، توفر ما يقرب من 6 مليون فرصة عمل، تمثل 36% من إجمالي قوة العمل في نفس السنة ( 16.4 مليون فرصة عمل ). كما أن القطاع غير الرسمي يساهم بنسبة تقارب 20% من الناتج المحلي الإجمالي، بل يزيد. وهكذا، يمثل القطاع غير الرسمي سوقا موازيا للقطاع الرسمي، ويساهم مساهمة متزايدة في توليد وزيادة الناتج المحلي القومي والدخل[4]. وقد قدرت بعض الدراسات الميدانية نسبة مساهمة القطاع غير الرسمي في الناتج المحلي الإجمالي بحوالي30 – 40%، كما وصلت القيمة المضافة لهذا القطاع، في أقل التقديرات، إلى 76 مليار دولار سنويا[5]. كما تتضح أهمية هذا القطاع عند معرفة حجم مساهمته في عملية التشغيل، فما بين تعدادي 1986، 1996 تضاعفت مساهمته في التشغيل من حوالي 2.5 مليون شخص إلى 5 مليون شخص، بما يمثل 86% من جملة المشتغلين في القطاع الخاص، بعد استبعاد قطاع الزراعة[6]. وعموما فإن التقديرات الرسمية تبتعد – عادة – عن الواقع؛ بسبب أنها لا تتضمن أعداد الأطفال أقل من 16 سنة، وكذلك العمال المتجولين والأسر ذات الدخل المنخفض[7].
وقد ذكرت دراسة قام بها معهد أوجست كونت، في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، أن أنشطة البناء غير الرسمية، التي تمت بدون ترخيص، تشكل ما بين 60%-70% من مجموع أنشطة البناء في مصر[8]. ويرجع البعض انتشار ظاهرة الإسكان غير الرسمي في مصر خلال حقبة السبعينيات وما بعدها إلى انفراط عقد التكافل الاجتماعي الذي ساد خلال الحقبة الناصرية؛ حيث زادت حدة الفروق الطبقية، واضطر الفقراء إلى بناء مجاورات سكنية في أطراف المدن دون الحصول على تراخيص من الدولة[9].
وتشير التقديرات الأولية التي أجراها المركز المصري للدراسات الاقتصادية ومعهد الحرية والديمقراطية ببيرو إلى أن 92% من المساكن في الحضر، و87% من الحيازات في الريف تعد غير رسمية، وأن قيمة الأصول العقارية غير الرسمية في الريف والحضر تبلغ نحو 240 مليار دولار، وتمثل 64% من إجمالي الأصول العقارية في مصر، وهي في ذلك تزيد بمقدار 30 مرة على القيمة السوقية للشركات المسجلة في بورصة الأوراق المالية بالقاهرة، وبمقدار 55 مرة على قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر حتى عام 1996. كما تزيد بمقدار 116 مرة على قيمة شركات القطاع العام التي تمت خصخصتها فيما بين عامي 1992 و 1996. كما تزيد بمقدار 6 أمثال عن إجمالي المدخرات والودائع لأجل في البنوك التجارية في مصر[10].
مفهوم القطاع غير الرسمي:
ارتبط مفهوم القطاع غير الرسمي Informal Sector منذ نشأته بالحضر، واعتبر ظاهرة مقترنة بارتفاع معدل التحضر Urbanization، والهجرة من الريف إلى المدينة Rural-Urban Migration. ويعتمد هذا المفهوم على ازدواجية النشاط الاقتصادي في بلدان العالم الثالث، وانقسام اقتصادياتها إلى قطاعين: قطاع رسمي Formal، وآخر غير رسمي Informal .
ومفهوم الازدواجية في تحليل النشاط الاقتصادي كان سائدا في نظريات التنمية قبل استخدام مفهوم القطاع غير الرسمي بوقت طويل. فالنموذج الذي انتشر بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة ذلك الذي قدمه آرثر لويس Arthur Lewis، كان يقوم على التمييز بين قطاعين للنشاط الاقتصادي في الدول النامية: قطاع حديث Modern، وقطاع تقليدي Traditional . فالقطاع الحديث يشمل الأنشطة ذات الارتباط المباشر بالعالم الخارجي والاستثمارات الأجنبية، والتي تستخدم فنا إنتاجيا متقدما. والنشاط الأساسي في هذا القطاع هو النشاط الصناعي. أما القطاع التقليدي فيشتمل على الأنشطة التي كانت سائدة قبل تغلغل نمط الإنتاج الرأسمالي في اقتصاديات العالم الثالث، والتي استمرت – أيضا – في التواجد بعد دخول هذا النمط الحديث، وظلت تستخدم أساليب إنتاج تقليدية. والنشاط الأساسي في هذا القطاع هو الزراعة[11].
وفي ظل هذا النموذج للتنمية، يعد القطاع الحديث المحور الأساسي في عملية التنمية؛ حيث يفترض أن عمليات التصنيع ستتم فيه على نطاق واسع ومتزايد، بحيث يمكن استيعاب قوة العمل الفائضة في القطاع التقليدي. ومن ثم تحقيق الهدف من التنمية، طبقا لهذا النموذج، وهو نمو الناتج القومي. وبذلك يصبح القطاع الحديث قادرا على توفير الموارد اللازمة لتحديث الاقتصاد ككل. أما عملية التوزيع والقضاء على الفقر فلم تكن هدفا مباشرا لهذا النموذج؛ حيث كان يفترض أنها ستتم تلقائيا، وعلى نحو تدريجي، نتيجة لتساقط منافع النمو على الفئات الفقيرة. وعلى هذا توقع البعض أن القطاع غير الرسمي لن يستمر في المستقبل، وأنه قطاع هامشي ومتخلف وتابع للقطاع الرأسمالي، وليس لديه القدرة على تكوين رءوس الأموال، أو حل مشكلات البطالة، أو توفير الحاجات الأساسية في الحضر، ولذلك سيندثر في النهاية. وبالتالي، لا جدوى من اتباع سياسات تطوير هذا القطاع؛ لأن نتائج استمراره هي زيادة استغلال العمال، وزيادة مستويات الفقر[12].
إلا أنه، بعد مضي عدة عقود، اتضح أن عملية التنمية لم تتم على النحو الذي توقعه هذا النموذج، كما اتضح أنه إذا كانت بعض الدول النامية قد حققت – أحيانا – معدلا مرتفعا للنمو الاقتصادي، إلا أن منافع هذا النمو لم تصل إلى الفقراء، كما أن التحديث لم يمتد ليشمل الاقتصاد بأكمله، ولم يستوعب القطاع التقليدي في القطاع الحديث. ومن ثم بدأ الاهتمام يتحول من التركيز على نمو الناتج القومي إلى النمو مع التوزيع، وبدأ عدد من الدراسات يتناول أوضاع الفقراء في الدول النامية.
وقد لوحظ عدم مطابقة حسابات الناتج المحلي للواقع، في كثير من الأحيان. فهناك من البحوث ما يؤكد أن إنفاق القطاع العائلي – مثلا – يتجاوز حدود الدخل المعلن أو المسجل في بحوث ميزانية الأسرة لهذا القطاع. ولهذا أجريت دراسات متعددة، في كثير من الدول المتقدمة والنامية على السواء، ونسبت هذه الظاهرة إلى وجود قطاع كبير ومتضخم في اقتصاديات تلك الدول، يضم أنشطة اقتصادية متنوعة تولد دخولا لا يمكن تقديرها بالطرق الرسمية المعتادة عند تقدير الناتج المحلي الإجمالي؛ وذلك إما لصعوبة تحديدها من خلال الطرق المعروفة للحسابات القومية، أو لعدم التبليغ عنها كليا أو جزئيا، أو لكونها غير قانونية[13]. كما لوحظ – أيضا – أنه رغم ارتفاع معدل نمو السكان وزيادة عرض العمل، فاٍن معدلات البطالة Unemployment تكون منخفضة في المجتمعات التي لا يوجد فيها نظام لتعويضات البطالة وغيرها من أشكال التأمين الاجتماعي. واتضح أن هذا يرجع إلى محاولة الأفراد توفير أي وسيلة للإعاشة، سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة، كذلك اتضح أن الكثير من هؤلاء يجدون أعمالا مدرة للدخل في المشروعات الصغيرة وفي أنشطة لا تشملها الإحصاءات الرسمية. وقد وجه هذا الأمر الانتباه إلى أهمية هذه المشروعات والأنشطة في توفير مجالات يعمل فيها فقراء الحضر[14].
والاختلاف بين الازدواجية أو الثنائية من خلال منهج التحديث، الذي يقوم على التقسيم الثنائي للنشاط الاقتصادي إلى قطاع حديث وقطاع تقليدي، وبين الازدواجية من خلال المنهج القائم على تقسيم النشاط الاقتصادي إلى قطاع رسمي وقطاع غير رسمي، هو أنه، في ظل المنهج الأول، يفترض أن القطاع الحديث سوف يتسع، مع استمرار عملية النمو، ويستوعب القطاع التقليدي، وتصبح قوة العمل، خارج قطاع الزراعة، تمارس العمل بأجر في النشاط الإنتاجي الحديث. بينما التقسيم إلى قطاع رسمي وقطاع غير رسمي يقوم، على الأقل في الأجل القصير، على التعايش بين القطاعين، وعلى أن القطاع غير الرسمي ليس قطاعا مؤقتا أو يعبر عن نشاط مرحلي، كما أن نسبة غير قليلة من المشاركين في هذا القطاع يتسمون بقدر مرتفع من الكفاءة، والقدرة على التنظيم، واستغلال الموارد المتاحة. ومن ثم، بدلا من النظر إلى الأنشطة التقليدية على أنها سمة من سمات التخلف في دول العالم الثالث، أصبح ينظر إلى القطاع غير الرسمي على أنه قادر على توفير فرص العمل وإنتاج سلع وخدمات، خاصة للفقراء من سكان الحضر وللمهاجرين إلى المدينة من أبناء الريف[15].
وجه آخر للاختلاف بين ثنائية (الرسمي وغير الرسمي) وثنائية (الحديث والتقليدي) يتجلى في أن الأولى تركز على تنظيم الأنشطة، بينما تهتم الثانية بالنسق التكنولوجي وتولي قليلا من العناية لبقية خصائص المؤسسة. وفضلا عن ذلك، يثير مفهوم (تقليدي) نوعا من الاستخفاف، باعتباره نتاج ثقافة أجنبية تنظر إلى ما هو تقليدي على أنه معوق وضار لعملية التنمية، بدلا من معالجته بصفته جزء لا يتجزأ من ثقافة الأمة وهويتها. أما ثنائية (الرسمي وغير الرسمي) فتبدو محايدة ولا تقول شيئا أكثر من تسليمها بفكرة لارسمية بعض الأنشطة الحضرية، علاوة على لارسمية علاقاتها بباقي مكونات البناء الاجتماعي الحضري[16].
كما إن مصطلح (القطاعين الحديث والتقليدي ) يتضمن التمييز بين الفرعين على أساس نوع السلع المنتجة ونوع التكنولوجيا المستخدمة. ومن الواضح، كما أظهرت العديد من الدراسات الميدانية، أن كثيرا من السلع غير التقليدية يتم إنتاجها بواسطة كلا القطاعين الفرعيين للإنتاج، فضلا عن أن كلمة " تقليدي " تحمل، أحيانا، مغزى سلبيا، يوحي بانعدام وجود الدينامية، أو باستخدام أساليب تكنولوجية منخفضة الكفاءة[17].
ويقرر البعض أنه يجب تغيير المفهوم التقليدي لما يسمى القطاع غير الرسمي؛ حيث إنه ليس قطاعا متجانسا، وإنما هو مجموعة من الأنشطة تمثل الغالبية العظمى من قوة العمل، ولذا ينبغي تسميته بالاقتصاد غير الرسمي. ويقترح أن هذا الاقتصاد يشتمل على قسمين مختلفين، هما:
1. قطاع المشروعات الصغيرة: وهو الجانب المنتج من الاقتصاد غير الرسمي، وهو أيضا القطاع الذي يستجيب للسياسات الاقتصادية، ويمثل نحو 25% من الاقتصاد غير الرسمي. وتشير التجارب الدولية إلى أن القطاع المنتج من الاقتصاد غير الرسمي يتمتع بقدرة كبيرة على امتصاص أعداد كبيرة من قوة العمل، كما يلبي احتياجات فئات الدخل المنخفضة، وزيادة القدرة الاستيعابية لهذا القطاع تتطلب حزمة من السياسات، تشتمل على أربعة أركان هي: الائتمان، وتصميم المنتجات، والتسويق، والتنظيم.
2. قطاع العمل العشوائي: ويمثل استراتيجيات البقاء للفقراء Survival Strategies، ويمثل حوالي 75% من الاقتصاد غير الرسمي، ويجب العناية به في إطار استراتيجيات محاربة الفقر، عن طريق التحويلات المباشرة[18].
وعلى هذا يرى البعض أن أنشطة القطاع غير الرسمي ليست مجموعة الأنشطة الطفيلية أو الهامشية أو غير المشروعة، بل أنها مجموعة من الأنشطة الاقتصادية النامية، التي تبدو واضحة في مجالات عديدة، مثل: صناعات الملابس، والأخشاب، وخدمات الإصلاح، وقطاع البناء والتشييد، وغير ذلك من المجالات الصناعية، والتجارية، والخدمية. ولا يعني ذلك استبعاد النشاطات الطفيلية أو الهامشية أو الخفية من القطاع غير الرسمي، ولكن يجب النظر إليها في سياق بنائي عام يأخذ في اعتباره مجمل الممارسات الاقتصادية في سياقها الاجتماعي الحضري[19].
تعريف القطاع غير الرسمي:
تميز استخدام مصطلح " القطاع غير الرسمي " بقدر كبير من عدم الدقة في البداية، وما زال حتى الآن يثير إشكاليات في التمييز بينه وبين مصطلح " القطاع الرسمي ". فقد استخدم للإشارة إلى فقراء الحضر على وجه الخصوص، أو إلى أولئك الذين يقطنون الأحياء الفقيرة المزدحمة بالسكان في المدن، وكذلك من يقيمون في مأوى ذي مواصفات متواضعة للغاية، على أرض تم احتلالها أو امتلاكها بوضع اليد. كما استخدم المصطلح أحيانا للإشارة إلى المشتغلين في أنشطة لا يحظى أغلبها بالرضا من جانب المجتمع، مثل: القوادين، وبائعي المخدرات، ومن إليهم، ممن يقومون بأعمال قد تكون شبه مشروعة أو غير مشروعة أصلا، وكذلك من يقومون بأعمال متواضعة، مثل: الكناسين، وماسحي الأحذية، ومن إليهم. وفي بعض الأحوال كان المصطلح يعبر عن أصحاب المهن ذات الإنتاجية و/ أو الأجر المنخفض، والمهاجرين من الريف إلى المدن، على اعتبار أن أكثرهم قد لا يوفق في الحصول على فرصة عمل في القطاع الرسمي، وقد ينتهي به الحال إلى سكنى الأحياء الفقيرة، والعشش، والمدافن، والاشتغال في مهن متواضعة اقتصاديا واجتماعيا[20].
وتتبنى الدراسة الراهنة مصطلح " غير رسمي " للتعبير عن الظاهرة موضوع الدراسة، رغم ما يمكن أن يوجه إلى المصطلح من انتقادات، في مقدمتها مدى صحته اللغوية واستخدام لفظ " غير " في اللغة العربية. وينبع تفضيل استخدامه من تفضيل الغالبية لاستخدامه – رغم غموضه – نظرا لعدم وجود مصطلح آخر يعبر عن الظاهرة بشكل أفضل، وبالتالي يعد أكثر انتشارا من بقية المصطلحات، وهي سمة أساسية لأي مصطلح علمي. كما أنه لا يحمل أحكاما قيميه على الأنشطة المتضمنة فيه. وأخيرا فهو يسمح بتصور متصل Continuum يصل بينه وبين القطاع الرسمي، وبالتالي يتيح الفرصة لتنميط وتصنيف الأنشطة ووضعها على درجات متعددة على نفس المتصل.
و يقصد بالقطاع غير الرسمي، في هذه الدراسة، ذلك القطاع الذي يشمل وحدات اقتصادية، تعمل في أنشطة نقدية، وتمارس أنشطة مشروعة بطبيعتها، ولكنها لا تلتزم – جزئيا أو كليا – بالإجراءات الرسمية التي حددتها الدولة لمزاولة نشاطها. وبذلك يستبعد من نطاق الدراسة كافة أنشطة التبادل والأنشطة غير النقدية؛ حيث لا يقع في مجال اهتمامها سوى الأنشطة التي تدر دخلا ماديا. كما يتم استبعاد الأنشطة غير المشروعة، المرتبطة بالمخدرات والدعارة ..... اٍلخ، على كافة المستويات الطبقية، وأيضا أنشطة( التربح ) الخاصة بالطبقة العليا، باعتبارها أنشطة غير مشروعة أيضا.
ويقصد بالوحدة الاقتصادية أي نشاط اقتصادي: إنتاجي، أو تجاري، أو خدمي، يمارسه شخص طبيعي أو معنوي، في منشأة أو خارج المنشآت، ويدر دخلا. وعلى هذا، يعتبر وحدة اقتصادية ذلك الجزء من الوحدة السكنية المخصص لمزاولة نشاط اقتصادي معين بصفة مستمرة، وكذلك العربة، وما في حكمها، المثبتة بنهر الطريق، أو على رصيف، أو داخل سوق، وأيضا الباعة الذين يعرضون بضائعهم على الأرض وبالأسواق، وينصرفون في نهاية اليوم، والباعة المتجولين، ومقدمي الخدمات المتجولين، ومن في حكمهم.
بعض التجارب العالمية والمحلية في التعامل مع القطاع غير الرسمي:
في غرب إفريقيا نجد ما يدعى " البنوك المتنقلة أو الجائلة "؛ حيث تقوم هذه البنوك بتعبئة المدخرات غير الرسمية، عن طريق المرور اليومي على صغار المدخرين، في أماكن عملهم أو في منازلهم؛ لجمع المبالغ المتفق عليها. وعادة ما يكون المبلغ اليومي صغيرا جدا. وفي نهاية كل شهر يرد البنك للعميل المبالغ التي جمعها منه طوال الشهر، مخصوما منها ما يوازي وديعة يوم واحد كعمولة. وفي حالة انتظام العميل، لفترة معقولة، يمكنه الحصول على قرض من البنك. ويعد هذا النظام مفيدا للعاملين في القطاع غير الرسمي لعدة أسباب منها: عدم وجود حد أدنى لمبلغ الإيداع اليومي، وعدم الاحتياج للانتقال أو السفر لمسافات طويلة، فضلا عن أن هذا النظام لا يتطلب إجراءات معقدة تستلزم الإلمام بالقراءة والكتابة[21].
وفي تنزانيا، يوفر مشروع رائد في ( دار السلام ) للتأمين الصحي، من خلال خمس جمعيات مشتركة، التأمين الصحي للعاملين في القطاع غير الرسمي. ففي ( إيجونجا )، حقق صندوق صحي للمجتمع المحلي، يغطي خدمات الرعاية الصحية الأولية، مشاركة بلغت خمسين في المائة. والسبب الأساسي لنجاح مشروعات التأمين القائمة على الاشتراكات المخفضة للعاملين في القطاع غير الرسمي هو تنظيمها حول رابطة تقوم على الثقة وتبادل الدعم (مجموعة مهنية أو قرية)، والقدرة الإدارية على جمع الاشتراكات وتوفير المزايا[22].
أما في قارة آسيا فتمثل تجربة "بنك جرامين"Grameen Bank في بنجلاديش مثالا ناجحا لبرنامج ائتماني موجه أساسا للمرأة ذات الدخل المنخفض، والتي لا تملك أي ضمان للاقتراض. وتمثل المرأة العاملة في القطاع غير الرسمي نحو 92% من عملاء البنك، كما تبلغ معدلات سداد القروض 98% في المتوسط، مما يدل على النجاح الكبير لهذه التجربة، رغم عدم اعتمادها على ضمانات الائتمان التقليدية[23].
وقد كان الهدف الأول لبرامج ائتمان البنك هو تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للفقراء في الريف. ومن أهم إنجازاته تغيير نظرة الريفيين تجاه النساء وعملهن؛ حيث تعاني النساء، في مثل هذه المجتمعات، من الزواج المبكر وكثرة إنجاب الأطفال ومن الجهل والبطالة. ورغم الإنجازات التي حققها بنك جرامين من حيث زيادة مشاركة النساء في النشاط الاقتصادي، وتوفير فرص العمل والتوظف للفقراء – وخاصة من النساء، ورفع مستوى إنتاجية صغار المزارعين، وتحسين مستوى معيشة الأعضاء من حيث: السكن، والتغذية، فإنه يواجه العديد من المشكلات. وتتمثل المشكلة الأولى، التي يعاني منها البنك، في عدم قدرته على تحقيق أرباح تجعل منه مؤسسة مالية تعتمد على مواردها الذاتية، كما أن الأعضاء الذين يقترضون منه أكثر من مرة أقل ردا للقروض مقارنة بالأعضاء الذين يقترضون لأول مرة. ومن التحديات التي تواجه عملاء البنك ضرورة أن يتمكنوا من استخدام التكنولوجيا المتقدمة في القطاعات التقليدية التي يعملون بها، وليس مجرد الانتقال إلى أنشطة أكثر إنتاجية لزيادة دخولهم[24].
وفي أمريكا اللاتينية، وبالتحديد في بيرو، قام معهد الحرية والديمقراطية، بمساندة مالية وفكرية ومعنوية من الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية، بتنفيذ مشروع (تسجيل الأعمال للشركات Business form )، بغرض إضفاء الطابع الرسمي، على نطاق واسع، على المشروعات التي تعمل خارج نطاق القانون، وإيجاد مشروعات جديدة رسمية لم تكن لتنشأ في غير وجود هذا النظام. وفي الفترة بين عامي 1991 و 1994، تم إضفاء الطابع الرسمي على 275 ألف مشروع، بالإضافة إلى إنشاء 105 آلاف شركة جديدة. وقد وفرت هذه المشروعات 550 ألف فرصة عمل جديدة، ووفرت 690 مليون دولار من المصروفات الإدارية، وزادت من حصيلة الضرائب بنحو 1.2 مليار دولار[25].
ومن التجارب الناجحة التي قدمتها منظمات المجتمع المدني في مصر لتنظيم العلاقة بين الدولة والعاملين في القطاع غير الرسمي، تجربة جمعية بائعي أطعمة الشارع بمحافظة المنيا التي استطاعت أن تضرب نموذجا مهما لتنظيم العاملين بهذا القطاع على مدار عقدين تقريبا بطريقة إنسانية وتنموية في آن واحد. فقد استطاعت هذه الجمعية - التي أنشئت عام 1986- بالتعاون بين مسئولين حكوميين وبائعي أطعمة الشوارع- حماية حقوق الباعة الجائلين، والتعامل مع قضيتي الازدحام في الشوارع، وسلامة الطعام.
وبموجب اتفاق بين الجمعية ومسئولي المحافظة أصبح في الإمكان مصاحبة مسئولي الصحة الباعة وتنظيم دورات تدريبية لهم في كيفية تداول الأطعمة والنظافة الشخصية، وتوقفت السلطات البلدية عن مطاردة الباعة طالما اتبعوا القواعد التي اتفق عليها. كما تم تصميم عربات جديدة وأكشاك دائمة تم تخصيصها لبعض المناطق، مع الأخذ عند تصميمها أن تناسب الجمال السياحي بالإضافة إلى التجارة المحلية.
وجاءت نشأة هذه التجربة بعد أبحاث ميدانية قام بها مكتب مستشاري الإدارة والتحليل والتخطيط الاجتماعي (سيباك) بالقاهرة حول أهمية الباعة الجائلين في تحقيق الأمن الغذائي لمحدودي الدخل في مدن مختلفة داخل مصر ومنها محافظة المنيا. وخلصت هذه الأبحاث إلى أن هذا القطاع يضم فئات من المواطنين يمثلون جزءا كبيرا من المجتمع يحتاج التنظيم والاهتمام والرعاية والتطوير، كما أنه يعتبر نشاطا اقتصاديا مفتوحا يسمح بدخول وخروج قوى عاملة بلا قيود، ويسمح بدخول المرأة المعيلة بسهولة، ولا يمكن اعتباره نشاطا طفيليا. ووفقا للأبحاث التي أجريت آنذاك في منتصف الثمانينيات هناك ما يقرب من 50 ألف شخص يأكلون طعام الشارع كل يوم من الباعة المتجولين في المنيا. وقد تم عرض نتائج هذه الأبحاث على المسئولين بالمنيا الذين تفهموا القضية، وبدءوا في التعاون مع البائعين لإنشاء جمعية بائعي أطعمة الشوارع التي بدأت بـ (28) عضوا عند تأسيسها، ثم تطورت لتضم المئات من الباعة الجائلين.
غير أن قصة نجاح الجمعية لم تتوقف عند تنظيم العلاقة بين السلطات والباعة وضمان سلامة الطعام الذي يقدمه هؤلاء الباعة، بل إنها تلعب دورا في تنمية وتطوير الباعة من خلال توفير القروض ومستلزمات إنتاج الأطعمة، وتقيم لهم الاحتفالات في المناسبات الاجتماعية، كما تدير صندوقا للزمالة وتعمل على توصيل الرعاية الطبية للباعة وأسرهم. وقد أدت هذه الخدمات إلى تحسين نوعية الطعام المباع، والأهم من ذلك أن الجمعية دعمت شرعية المهنة، وزادت من الاحترام الذاتي للباعة. ويجري الآن تطبيق التجربة في باقي محافظات مصر لينتظم بائعو أطعمة ومشروبات الشارع داخل جمعيات أهلية تكون همزة الوصل بين هذا القطاع والجهات الحكومية[26].
الدولة والقطاع غير الرسمي في مصر:
في الوقت الذي تنشط حركة العاملين في القطاع غير الرسمي في العالم للدفاع عن حقوقها، فثمة غياب عربي ملحوظ عن هذه المنظمات؛ وذلك لأسباب عديدة، منها: ضعف حركة المجتمع المدني وطغيان الدولة وعرقلتها أحيانا لهذه الحركة، علاوة على تدني الثقافة لدى شريحة العاملين في القطاع غير الرسمي ذاتها وانغلاقها على همومها المحلية دون الانفتاح على الحركات العالمية.
ويعد القطاع غير الرسمي تنظيما اقتصاديا متكاملا يحتل مكانة واضحة في بنية الاقتصاد المصري. ويثير الحديث عن القطاع غير الرسمي في مصر تساؤلات عديدة حول الدور الذي لعبته الدولة في نشأته وازدهاره، وعن موقفها منه ومن العاملين فيه، وعلاقة هؤلاء بأجهزة الدولة وموقفهم منها.
وهناك ديناميات سياسية يمكن أن تساعد في تفسير نشأة واستمرار القطاع غير الرسمي؛ فأنشطته يفترض أنها تحت السيطرة الحكومية، ولكنها إما أنها تتجنب هذه السيطرة أو تتضمن استخداما غير شرعي للوضع الحكومي.
وبالنسبة لوجهة النظر الحكومية، يعد القطاع غير الرسمي أصعب في التحديد من أي قطاع آخر: إنه الوجه المظلم للقمر، تلك الشريحة من المجتمع التي تفشل الحكومة في إحكام قبضتها عليها، أيا كان الغرض. إنه القطاع غير المتبلور، بمعنى أنه لا يسهل التعرف على تركيبه أو تنظيمه كما قد يظن الغريب عنه. وهذه الفئة، بأوضاعها وظروفها، تتعارض مع ولا تلائم متطلبات قوانين التكنولوجيا والاقتصاد وبقية القوانين. والأسوأ من ذلك، أن العاملين في القطاع غير الرسمي، وهم على علم كامل بوجود السلطات الحكومية، يتخذون منها موقفا يعوق كل تعامل ومشاركة فعالة بين الطرفين[27].
ومن الملاحظ أن القطاع غير الرسمي نادرا ما يتردد في الخطاب السياسي، في الوقت الذي يشيع تداوله في بحوث الأكاديميين ودراساتهم. أما رجال السياسة فهم يستخدمون مصطلحات أخرى مرادفة لمصطلح القطاع غير الرسمي مثل: "العمل الخاص"، و"العمل الحر"، و"الصناعات الصغيرة"، وكلها لا تخرج عن كونها أعمالا يمارسها الأفراد في إطار الاقتصاد غير الرسمي؛ لملاءمته لقدراتهم المادية وإمكاناتهم التنظيمية[28].
وقد كان الدخول إلى القطاع الرسمي، في حقبة الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي قبل ثورة 1952 يقتصر على الأجانب والأثرياء من المصريين. أما غالبية أفراد المجتمع فكانوا يعملون بالزراعة، أو الحرف اليدوية، أو عمالا بالأجر في المصانع، أو عمالا في القطاع غير الرسمي[29]. وفي حقبة الرأسمالية الليبرالية الحالية، والتي بدأت بسياسة الانفتاح الاقتصادي عام 1975، تضع الدولة من القواعد القانونية ما يحول دون دخول صغار المستثمرين إلى مجالات الاقتصاد الرسمي، فتشترط، مثلا، أن يكون الحد الأدنى لرأسمال الشركات العاملة في مجال الصرافة والسياحة مليون جنيه، وترفع الحد الأدنى لقيمة السهم من جنيهين إلى خمس جنيهات وحده الأقصى إلى ألف جنيه. وهذا الحد الأقصى مرتفع – نسبيا – بحيث يتعذر على ذوي الدخول الصغيرة الاكتتاب في الأسهم، ويقتصر تأليف الشركات المساهمة على الموسرين[30].
وينهض موقف الدولة من القطاع غير الرسمي على أساس عدد من القضايا التي تحدد المقصود بمصطلح " غير الرسمي " ومفهومه لدى أجهزتها. فقد كشفت إحدى الدراسات الميدانية، من خلال عدد من المقابلات المتعمقة التي أجريت مع بعض المسئولين بشرطة المرافق والأحياء، أن الدولة تنظر إلى هذا القطاع على أنه قطاع يعمل بعيدا عن رقابتها، وأن منشآته لا تلتزم بالإجراءات والمتطلبات الرسمية التي يحددها القانون لممارسة أي من هذه الأنشطة، كما أن أصحاب هذه المنشآت لا يلتزمون بالتأمين على عمالهم، أو بدفع الضرائب المفروضة عليهم، أو حتى بالحصول على ترخيص من الجهات المعنية بممارسة النشاط[31].
وبالرغم من أهمية القطاع غير الرسمي، فاٍن الدولة تقف منه موقفا مناوئا يعوق أداءه الاقتصادي، ويضع أمام العاملين فيه كثيرا من المشكلات والمعوقات. وتتجلى ضغوط الدولة على القطاع غير الرسمي فيما تقوم به أجهزتها من ملاحقة مستمرة للعاملين به، وتحرير المحاضر ضدهم، وإصدار القرارات الإدارية بإغلاق منشآتهم؛ بسبب مخالفتها لشروط التراخيص التي نص عليها القانون.
وتتعدد الأجهزة الحكومية التي تتدخل بقصد تنظيم عمل القطاع غير الرسمي؛ حيث تقوم – من وقت لآخر - بإيفاد مندوبيها لإجراء التفتيش على أنشطته. ويعاني العاملون في هذا القطاع من تعسف المفتشين في استعمال سلطاتهم والإتاوات التي يفرضها عليهم بعض الفاسدين منهم.
وإذا عرضنا للإجراءات الرسمية الواجب مراعاتها عند مزاولة نشاط اقتصادي، وحصرنا الجهات الحكومية التي تشرف عليها ن سنجد أنها أكثر من عشر جهات: تبدأ من إدارة الحي، مرورا بالسجل التجاري،ثم الخضوع لإشراف ورقابة من إدارة التأمينات الاجتماعية، ومكتب العمل، ومصلحة الضرائب، وإدارة الأمن الصناعي، ووزارة التموين، ووزارة الصحة، وإدارة المطافئ بوزارة الداخلية، وجهاز شئون، وقسم شرطة الحي.
ومن المفارقات في علاقة العاملين في القطاع غير الرسمي بالدولة أن بعض المؤسسات الرسمية، مثل شركة الكهرباء وشركة المياه، قد يرفض إمداد إحدى منشآت القطاع غير الرسمي بالخدمة؛ لعدم توافر تراخيص البناء أو لأي سبب آخر، ويقترح العاملون بهذه المؤسسات على طالب الخدمة أن يسرق المياه أو التيار الكهربائي، ويحصل على الخدمة المطلوبة بطريق غير مشروع؛ فتكون النتيجة أن يتم تحرير محضر ضده لمخالفته شرط الحصول على الخدمة، يقوم بعده بالتصالح مع إدارة المؤسسة، ودفع غرامة مالية معينة، يكتسب على إثرها وضعا قانونيا يخوله التمتع بهذه الخدمة. بعبارة أخرى، قد يضطر صاحب المنشأة إلى القيام بعمل غير مشروع يخالف القانون، ليكتسب مركزا قانونيا مشروعا يقره القانون[32].
ويتعين على الشخص الذي يرغب في الحصول على قطعة أرض من الصحراء المملوكة للدولة في مصر، ويسجلها بصورة قانونية، أن يشق طريقه خلال 77 إجراء بيروقراطيا في إحدى وثلاثين هيئة عامة وخاصة. وقد يستغرق هذا في أي مكان ما بين خمس سنوات وأربع عشرة سنة. ويتطلب بناء مسكن قانوني على أرض كانت زراعية من ست سنوات إلى إحدى عشرة سنة من المشاحنات البيروقراطية، وربما أطول من ذلك. ويفسر هذا السبب في أن 4.7 مليون مصري اختاروا بناء مساكنهم بصورة غير قانونية. وإذا قرر المستوطن بعد ذلك أنه يرغب في أن يكون مواطنا ملتزما بالقانون، ويشتري الحقوق الخاصة بمسكنه، فاٍنه يخاطر بهدم منزله ودفع غرامة باهظة، وأن يمضي في السجن ما يقرب من عشر سنوات[33].
وتوضح نتائج الدراسات الميدانية جانبا مهما في علاقة الدولة بالعاملين في القطاع غر الرسمي، فقد كانت شكوى بائعات الأرصفة في أحد الأسواق الشعبية بمدينة الإسكندرية من عدم اهتمام المسئولين في المحافظة بهن، من حيث تنظيم السوق، وحمايتهن من البلطجية، وإزالة أكوام القمامة بصفة دورية، كما يعانين من حملات مفتشي الصحة؛ بسبب عدم مراعاة الشروط الصحية أثناء عملية البيع، بالإضافة إلى عدم استخراج شهادات صحية تسمح لهن بعملية تسويق المنتجات الغذائية[34]. وبالنسبة للباعة الجائلين، فغالبا ما يهاجمون من شرطة المرافق، التي تمنع تواجدهم على الرصيف. كما تحرر لمعظمهم مخالفات تسعيرة؛ لاضطرارهم لتحقيق قدر من الربح، يفي بمتطلباتهم اليومية، ولسداد ديونهم لدى التاجر الكبير. ويلاحظ أن تحديد تسعيرة السلع، خاصة الخضر والفاكهة، لا يحاسب عليه إلا البائع الصغير، ولا تضع وزارة التموين، في الاعتبار، التكلفة الحقيقية لشراء السلعة، ونقلها، وتوزيعها. في حيت أن كبار التجار لا يخضعون لأي رقابة، ولا لأي تدخل من الشرطة أو التموين. كما أن كل تاجر كبير يستند – غالبا، على أحد الوجهاء أو المسئولين؛ فبعض التجار يمولون الحملات الانتخابية لبعض أعضاء مجلس الشعب، وبعضهم يتعامل مباشرة مع بعض كبار ضباط الشرطة، وذلك لتوفير الحماية، وتقوية مركز التاجر وسلطته في مقابل المتعاملين معه[35].
وعلى الرغم من الاحتكاك المستمر للعاملين بالقطاع غير الرسمي مع أجهزة الدولة، فاٍنهم لا يتخذون منها موقفا جماعيا، يعبرون من خلاله عن مصالحهم المشتركة؛ فهم لا يشتركون في الاتحادات التجارية أو النقابات العمالية. وتوضح نتائج إحدى الدراسات الميدانية غياب الوعي النقابي والجماعي لدى المبحوثات، وهو ما يعكس ضعف وغياب الحركة النقابية في المجتمع المصري، بصفة عامة[36].
والواقع أن عدم اشتراك العاملين في القطاع غير الرسمي في النقابات العمالية وغيرها من المنظمات، لا يرجع إلى عزوف منهم عن القيام بدور فعال في منظمات المجتمع المدني، بقدر ما يرجع إلى عدم اعتراف هذه المنظمات – أساسا – بأنشطة القطاع غير الرسمي بوجه عام، كما يرجع – أيضا – للشروط المعقدة التي تضعها النقابات وغيرها لقبول الأفراد أعضاء بها.
ومع ذلك، وفي حالات محدودة، يلجأ العاملون في القطاع غير الرسمي إلى طرق غير رسمية للدفاع عن مصالحهم، كالاجتماعات التي تتم بين أبناء المهنة الواحدة في المقاهي، لمناقشة مشكلاتهم، وإيجاد الحلول لها، أو استغلال أوقات الحملات الانتخابية لمرشحي مجلس الشعب لعرض مطالبهم على المرشحين.
توصيات الدراسة:
1. دعوة الجهات البحثية ذات الصلة لوضع تعريف ومعايير موحدة للقطاع غير الرسمي على مستوى الدول العربية , وبما ينسجم مع التعاريف والمعايير الدولية , مع مراعاة خصوصية كل دولة.
2. دعوة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى تضمين استمارات التعداد العام للسكان لأسئلة يمكن استخدامها في توفير قاعدة بيانات أساسية عن هذا القطاع.
3. دعوة كافة الجهات المهتمة بتوفير الإحصاءات مثل: مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، ووزارة القوى العاملة، ومراكز المعلومات التابعة للمحليات إلى البدء بتوفير البيانات وزيادة الاهتمام بهذا القطاع , مهما كانت الإمكانيات المتاحة والبيانات المتوفرة قليلة.
4. تتفق الدراسة مع ما اقترحه البعض من إنشاء مجلس قومي لتنمية القطاع غير الرسمي، يعمل على توفير البيئة المناسبة لأنشطته، ويسهم في مواجهة كافة المعوقات التي تحول دون تنميته، وتحقيق مهمة دعمه وتسهيل عمله. ويتشكل هذا المجلس من ممثلين تابعين للوزارات والهيئات المعنية، مثل: التخطيط، والاقتصاد، والصناعة، والتجارة، والمالية، والقوى العاملة، والصناعة، وغيرها من الوزارات المهتمة، إلى جانب ممثلين لهيئات مثل: المجلس القومي للمرأة، والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والمعهد القومي للتخطيط، وغيرها من جهات الاختصاص والاهتمام الأخرى. وربما أسهم هذا المجلس في تجسيد موقف موحد ومعلن لسياسة رسمية محددة تبين أسلوب تعامل الدولة مع القطاع غير الرسمي، ويبلور دورها في تشجيع العاملين به، وفي توفير المناخ الضروري والتأمين اللازم لحمايتهم. ويتوقف إنشاء هذا المجلس على قناعة الخطاب الرسمي، وعلى تحرك هيئاته في اتجاه إصدار القوانين والقرارات المنظمة لعمله، وضمان شرعيته طبقا للإجراءات الدستورية المطلوبة[37].
5. تطوير سياسات "التعاقد من الباطن" مع القطاع الرسمي؛ إذ أنه من أهم الأدوات المتاحة لتطوير المكون الإنتاجي للقطاع غير الرسمي، وذلك بتشجيع عمليات "التعاقد من الباطن"، بين وحدات القطاع الرسمي (الخاص والعام) وبين وحدات القطاع غير الرسمي، لاسيما المنشآت الصناعية الصغيرة وورش الإصلاح والصيانة الصغيرة. ويمكن أن تلعب غرف التجارة والصناعة دورا ملموسا في هذا الشأن. وبذلك يتم دمج الوحدات الاقتصادية التي تنتمي إلى المكون الإنتاجي للاقتصاد غير الرسمي في بنية الاقتصاد الوطني. وهكذا يتم تقليل درجة العشوائية في سلوك ذلك الجزء من الاقتصاد، كما أن هذه السياسة تساعد على ربط وحدات القطاع غير الرسمي بعمليات التحديث والتطوير التكنولوجي، على أسس ثابتة ومنظمة نتيجة المساعدة المستمرة في تحسين تصميم المنتجات ورفع مستوى جودتها.
6. الاهتمام بتطوير الصناعات اليدوية والحرفية، ولاسيما تلك التي لها طاقة تصديرية في المستقبل، مثل: مشغولات المعادن، والمنتجات الجلدية، والملبوسات.
7. الاهتمام بالتدريب التحويلي، وأن تركز مجهودات التنمية المحلية على استهداف تلك العناصر من قوة العمل التي تعمل خارج المنشآت، وتقوم بأنشطة قليلة الإنتاجية لا تحتاج إلى أي مهارات، وتحويلها إلى قوة عاملة مرتبطة بأنشطة إنتاجية، يكتسبون من خلالها مهارات جديدة، من خلال برامج واسعة للتدريب التحويلي وإعادة التأهيل، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من برامج مكافحة الفقر في البلدان النامية.
8. تسهيل استخراج تراخيص مزاولة النشاط، خصوصا لأصحاب الأنشطة الجائلة. والاستمرار في إقامة سويقات لتجميع الباعة الجائلين في أماكن يسهل وصول المستهلكين إليها، وتتمتع بالمرافق والخدمات اللازمة لراحة الباعة والمشترين. مما يسمح للباعة الجائلين بممارسة نشاطهم بأسلوب أكثر رسمية واستقرارا، ولا يكونون في حالة تخوف مستمر من مطاردة الأجهزة الرسمية لهم، وتهديدهم بمصادرة بضاعتهم أو الحبس.
9. توفير وحدات بديلة في المدن الجديدة للورش التي يتسبب نشاطها في إزعاج سكان المدينة أو تشويه البيئة المحيطة.
10. تفعيل آلية المشاركة بين المنظمات غير الحكومية ومنشآت القطاع غير الرسمي، من خلال توفير التمويل اللازم وتشجيع العاملين فيه على توليد الدخل من إنتاجهم، إما من خلال القرض الائتماني الدائم، حيث يحصل الأفراد على قروض بدون فوائد لبدء مشروع صغير، أو من خلال أسلوب القرض ذي العائد المحدود، وبما لا يتجاوز 1% من القرض، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال مظلة المنظمات الدولية المانحة.
11. ضرورة تبسيط الإجراءات الرسمية التي يلزم اتباعها، حتى تكتسب الوحدات بمقتضاها القدرة على مزاولة النشاط بشكل رسمي. ولعل أول الأسس التي يلزم إرساؤها يتمثل في توحيد الجهة أو الجهاز الذي تتعامل معه الوحدة الاقتصادية.
12. يجب احتواء العاملين في القطاع غير الرسمي داخل سياسات الحد من الفقر.
13. يجب أن تعمل الدولة جاهدة على أن يستظل العاملون في القطاع غير الرسمي بمظلة التأمينات الاجتماعية ومظلة التأمين الصحي، والعمل على تشجيع هؤلاء العاملون على الاستفادة من تلك الخدمات المقدمة من الدولة. ويلاحظ أن الدخل المتحقق من العمل في القطاع غير الرسمي يعتمد على ساعات العمل الفعلية، و أنه في حالات المرض تقل ساعات العمل، و بالتالي ينخفض الدخل . و نظرا لعدم استقرار هذه العمالة والطبيعة غير النظامية لهم، يصعب مد شبكة الضمان الاجتماعي إليهم . ولذا لابد من تصميم برامج مبتكرة للوصول إليهم . وربما يكون من المفيد في هذا الشأن ربط الاشتراك في نظام التأمينات والمعاشات بالفرد نفسه لا بالمؤسسة التي ينتمي إليها؛ فكثيرا ما يؤدي عدم خضوع المؤسسة لبعض الإجراءات الرسمية أو تهرب صاحبها من هذه الإجراءات إلى ضياع حقوق العاملين فيها بالنسبة للمعاشات، ونفس الأمر بالنسبة للتأمين الصحي.
14. الدعوة إلى تكوين جمعيات أو روابط تدافع عن مصالح العاملين في القطاع غير الرسمي. وهناك بوادر للمشاركة في هذا الدعم أسهمت بها بعض منظمات المجتمع المدني، التي كونت جمعيات للدفاع عن الباعة الجائلين في بعض المحافظات، والأمر يتطلب توسيع نطاق هذا الدعم، وتنمية كيانات تحقق تغطية للفئات المختلفة من العاملين في هذا القطاع، بدءا من أصحاب العمل، ومرورا بالمرأة والطفل، والمعوقين وكبار السن.
15. تبسيط أسلوب التعامل الضريبي مع وحدات القطاع غير الرسمي. وهو ما يمكن تحقيقه باتباع أسلوب الضريبة ذات الأساس الثابت، حيث تقدر الضريبة وفقا لمساحة الوحدة الاقتصادية بالمتر المربع، فتحدد قيمة معينة للمتر تختلف باختلاف الموقع الجغرافي للحي، وتتغير مع الوقت تمشيا مع المستوى العام للأسعار. وتسهيلا لأداء الضريبة بصفة منتظمة يمكن استيفاؤها مع التجديد السنوي لرخصة مزاولة النشاط. ويقترح البعض تقسيط دفع الضريبة على مدار السنة باستخدام أسلوب الكوبونات أو أي أسلوب بديل، تسدد بمقتضاه الضريبة في مواعيد محددة ومعلومة للممول. واتباع هذا الأسلوب البسيط في احتساب الضريبة له عدة مزايا أهمها: معرفة صاحب الوحدة المسبقة لحجم الضريبة الواجب سدادها في كل عام، بحيث يتمكن من تجنيبها وسدادها في الموعد المحدد. وهو نظام أفضل من تراكم الأعباء الضريبية عليه لمدة أربع أو خمس سنوات – كما يحدث حاليا – بحيث يصعب على الممول الوفاء بالقيمة الكلية المقدرة عن سنوات عديدة ماضية مرة واحدة. وتسهيل مهمة مأمور الضرائب في تقدير الأعباء الضريبية الخاصة بكل وحدة. وزيادة الإيراد الضريبي المحتمل، مع تبسيط عملية التقدير، ودورية الجباية بشكل منتظم.

وفي النهاية، يمكن القول إنه في ظل مشكلة البطالة الراهنة التي يمر بها الاقتصاد المصري، فإن مساندة وتشجيع أنشطة القطاع غير الرسمي يمكن أن يمثل إحدى الوسائل الأساسية المتاحة والمساعدة على خلق مزيد من فرص العمل والإنتاج.
الهوامش:
[1] هبة نصار، السياسات الاقتصادية وسياسات سوق العمل لتشجيع خلق فرص العمل للشباب في الدول العربية، الندوة الإقليمية الثلاثية للخبراء حول تشغيل الشباب والاستخدام في الدول العربية، منظمة العمل الدولية والبنك الإسلامي للتنمية، عمان، الأردن، 6-8 نيسان/ أبريل 2004 ص5.
[2] حمدي عبد العظيم، غسيل الأموال في مصر والعالم: الجريمة البيضاء ( أبعادها – آثارها – كيفية مكافحتها )، أكاديمية السادات للعلوم الإدارية، ط1،1997 ص 112.
[3] مجلس الشعب، تقرير التنمية الاجتماعية في مصر، القاهرة، مايو 2000 ص5.
[4] مدحت حسنين وآخران، مرجع سابق، ص43.
[5] المرجع السابق، ص 36.
[6] نفس المرجع، ص26.
[7] Giugale,Marcelo M. and Mobarak,Hamed ; Private Sector Development in Egypt , The American University in Cairo Press , Cairo , 1996 P.165.
[8] المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ومعهد الدراسات الاجتماعية لاهاي–هولندا، إمكانات التنمية بين ذوي مستوى المعيشة المنخفض، القاهرة، 1983، ص112.
[9] ميلاد حنا، الإسكان والمصيدة، المستقبل العربي، القاهرة، 1988 ص ص 58-59.
[10] هيرناندو دي سوتو، رأس المال غير المستغل ومحدودي الدخل في مصر، المركز المصري للدراسات الاقتصادية، المحاضرة المتميزة رقم "11"، القاهرة، ديسمبر 1997 ص 7.
[11] محيا زيتون، الاستخدام في القطاع غير النظامي، المجلة الاجتماعية القومية، المجلد 32، العدد 23، سبتمبر 1995 ص 36.
[12] عمر عبد الحي صالح البيلي، الاقتصاد الخفي في الدول النامية: اتجاهات وتوقعات، دراسات مستقبلية، مركز دراسات المستقبل، جامعة أسيوط، العدد الثالث، يوليو 1997 ص 115.
[13] أميرة مشهور وآخران، القطاع غير الرسمي في حضر مصر – إطار نظري للدراسة، المجلة الاجتماعية القومية، المجلد 25، العدد 2، مايو 1988 ص 7.
[14] محيا زيتون، الاستخدام في القطاع غير النظامي، مرجع سابق، ص37.
[15] محيا زيتون، الاستخدام في القطاع غير النظامي، مرجع سابق، ص 40.
[16] إسماعيل قيرة، مشكلات التشغيل والبطالة في الوطن العربي: دراسة تحليلية لواقع القطاع الحضري غير الرسمي، مرجع سابق، ص .226
[17] إحسان حليم ( ترجمة )، مرجع سابق، ص 38.
[18] سمير رضوان، المرأة المصرية في سوق العمل – نظرة مستقبلية، منتدى المرأة المصرية في سوق العمل، مرجع سابق، ص 13.
[19] السيد الحسيني، مرجع سابق، ص ص 9 – 10.
[20] إبراهيم حسن العيسوي، نحو خريطة طبقية لمصر – الإشكاليات النظرية والاقتراب المنهجي من الواقع الطبقي المصري، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة،1989، ص ص 101-102.
[21] سعاد كامل رزق، المشاكل التي تواجه المرأة في القطاع غير الرسمي والسياسات المقترحة لمواجهتها، مرجع سابق، ص 8.
[22] البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم، 2000/2001 ( شن هجوم على الفقر )، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 2001 ص 151.
[23] سعاد كامل رزق، المشاكل التي تواجه المرأة في القطاع غير الرسمي والسياسات المقترحة لمواجهتها، مرجع سابق، ص7.
[24] إيمان سليم، تأنيث الفقر، تدعيم دور المرأة في التنمية المتواصلة، بحوث المؤتمر الثاني لكلية التجارة (بنات) بجامعة الأزهر، 23-24 سبتمبر 1998،ط1،1999ص 405.
[25] هيرناندو دي سوتو، رأس المال غير المستغل ومحدودي الدخل في مصر، مرجع سابق، ص 29.
[26] http://www.islamonline.net/arabic/economics/2004/11/article06.shtml 5< أكتوبر 2005
[27] المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ومعهد الدراسات الاجتماعية لاهاي-هولندا، مرجع سابق، ص 145.
[28] عصام الخفاجي، مجلة جدل، دار كنعان للدراسات والنشر، سوريا، بدون تاريخ، ص ص 4-5.
[29] Daana ,Leo Paul ; Assisting Family Business in the Informal Economy: A Look at an Innovative Credit Program in Egypt , Nanyang Technological University,Singapoore,1998, at: http://w.w.w.sbaer.uca.edu/docs/q8icbs/n..ql.htm
[30] مصطفى كمال طه، الشركات التجارية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 1998 ص161.
[31] حسن محمد، مرجع سابق، ص126.
[32] المرجع السابق، ص 130.
[33] هيرناندو دي سوتو، سر رأس المال: لماذا تنتصر الرأسمالية في الغرب وتفشل في كل مكان آخر، ترجمة كمال السيد، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 2002 ص ص 20-21.
[34] محمد سيد فهمي، بائعات الأرصفة في الأسواق الشعبية – دراسة ميدانية مقارنة، المجلة العلمية لكلية الآداب، جامعة المنيا، المجلد 27، الجزء الثاني، أكتوبر 1997 ص 333.
[35] عبد الباسط محمد عبد المعطي، التدين والإبداع – الوعي الشعبي في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001 ص 151.
[36] حسنين كشك (مشرفا)، الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على عمل النساء في القطاع غير الرسمي والمشكلات التي تواجههن وآليات التدخل إزائها، دراسة ميدانية، القاهرة، مركز البحوث العربية، بحث غير منشور، 1998 ص 20.
[37] علي عبد الرازق جلبي وآخرون، القطاع غير الرسمي في مدينة القاهرة: التقرير الثالث، دراسة على المنشآت: البنية والتنمية، مرجع سابق، ص324.

المواطنة

مقدمة:
المواطنة في مهدها الأول في صدر الحضارة الرومانية كانت ترتكز في المقام الأول على دعامة واجبات والتزامات المواطنين، ومع التطور وظهور الحركات السياسية والحقوقية وتغير المنظومة السياسية العالمية وظهور نظم الديموقراطية الليبرالية التي سعت إلى توسيع نظرية المواطنة بتوفير الدعامة الثانية للمواطنة وهي المواطنة الحقوقية والتي قسمت حقوق المواطنة إلى ثلاثة مكونات: أول تلك المكونات هي المواطنة المدنية، والتي تعد أحدى أهم نتائج القرن الثامن عشر، والتي أقر، من خلالها، بعض الحقوق المدنية مثل: حرية التعبير والفكر والحريات الدينية، وكذلك إقرار لمبدأ المساواة أمام القانون. ويأتي المكون الثاني وهوالمواطنة السياسية، والذي ظهر مع القرن التاسع عشر، وتأكد فيه على الحقوق الخاصة بالمشاركة في إدارة الشأن العام للبلاد والمشاركة السياسية مثل الحق في التصويت والترشيح للوظائف العامة. ومع القرن العشرين ظهر المكون الثالث وهو المواطنة الاجتماعية، وهوالمكون الذي يعتني بضمان حد أدنى من الأمن الاقتصادي للمواطن لحمايته من قوى السوق خاصة بعد أن ظهر على السطح عيوب الممارسات الرأسمالية وهوما كان يعني بالضرورة تدخل الدولة لضمان حدود دنيا من الأمن المادي والاقتصادي لرعاياها[1].
وباتت المواطنة رابطاً اجتماعياً وقانونياً بين الأفراد والمجتمع السياسي الديموقراطي. وهو ما يعني أن المواطنة تستلزم إلى جانب الحقوق والحريات مسئوليات والتزامات، وبدونهما يفشل المشروع الديموقراطي.
مفهوم المواطنة:
المواطنة كلمة تتسع للعديد من المفاهيم والتعريفات فالمواطنة في اللغة مأخوذة من الوطن وهومحل الإقامة والحماية. مواطنة هوتصريف مفاعلة من كلمة وطن‏,‏ والعرب عرفوا الوطن معرفة مبسطة فهو مجرد مقر اقامة‏,‏ مستندين الي الشرح القاموسي لكلمة وطن‏,‏ ففي قاموس لسان العرب‏,‏ نجد أن الوطن هومحل إقامة الإنسان. الوطن هو المنزل الذي نقيم به وهو موطن الإنسان ومحله‏,‏ ويقال أوطن فلان أرض كذا أي اتخذها محلا وسكنا‏,‏ ويكاد هذا التعريف أن يتطابق مع مختلف القواميس العربية.
ولعل هذا التعريف قد أتي إلينا من زمان يسبق قيام الدولة‏/‏الوطن‏,‏ ففيما قبل الدولة الحديثة كان تعريف الوطن هوتلك المساحة من الأرض التي تقيم فيها جماعة من البشر يكونون قبيلة أوجماعة عرقية أودينية‏.‏ ويذكر العلواني أن الاهتمام بهذا المصطلح قد نشأ مع ظهور الدولة الحديثة وحدودها الجغرافية والسياسية. ولفظ "مواطن" تعبير لم يظهر إلا بعد الثورة الفرنسية سنة(1789) م. لكننا يتعين علينا ولكي نتفهم كل ما سبق وكل ما سيأتي أن نعود الي أصل كلمة مواطن سواء في أثينا أو روما القديمتين‏,‏ ففي كلا البلدين كانت المواطنة والمساواة محصورة فقط بين الصفوة‏,‏ أما العبيد والنساء والغرباء والذين لا يمتلكون عقارا فليسوا مواطنين بالمعني المفهوم‏.‏ وكان ثمة فارق بسيط بين مواطنة أثينا التي تستند الي مايمكن وصفه بأنه مساواة بين المتساوين أي بين أفراد من النخبة التي تمثلها قبائل أثينا العشر والتي تستبعد من إطارها غير المتساوين‏,‏ أي النساء والعبيد وغير الملاك‏,‏ وبين مواطنة روما التي قد قامت علي أساس العمل المشترك من أجل تحقيق المصالح المشتركة‏,‏ والمصالح المشتركة هذه تفرض نفسها علي الجميع كحزمة متكاملة لا يجوز الانتقاص منها‏.‏
ومن حيث مفهومها السياسي فالمواطنة هي (صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن)، وفي قاموس علم الاجتماع تم تعريف المواطنة: بأنها مكانة أوعلاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة) ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول (المواطن) الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة الحكم القائمة.
ومن منظور نفسي: فالمواطنة هي الشعور بالانتماء والولاء للوطن وللقيادة السياسية التي هي مصدر الإشباع للحاجات الأساسية وحماية الذات من الأخطار المصيرية. وبذلك فالمواطنة تشير إلى العلاقة مع الأرض والبلد.
والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعريب للفظة (Citizenship) التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية: (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق متبادلة في تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات). واذا رجعنا الي الانسكلوبيديا الأمريكية نكتشف أن مفهوم المواطنة الأمريكية يتسع ليضمن حقوق متساوية لمهاجرين أتوا في مجموعات كبيرة من عديد من البلدان‏,‏ ومن ثم اتسع محققا أيضا وفي ذلك الوقت المساواة الكاملة بين الجميع‏,‏ ومع الحاجة في الحد من هجمات الهجرة الجماعية صدر عام‏1925‏ قانون يمنع الهجرة الجماعية ويحرم المواطن من الجنسية اذا حصل طوعا علي جنسية أخري أو خدم في جيش بلد آخر‏,‏ لكن المحكمة العليا أصدرت حكما شهيرا في عام‏1967‏ مؤداه لا يجوز سحب الجنسية من مواطن أمريكي إلا بإرادته الحرة‏.‏
ويقصد بالمواطنة العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات. وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أي تمييز قائم على أي معايير تحكمية مثل: الدين أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري.
ويرتب التمتع بالمواطنة سلسلة من الحقوق والواجبات ترتكز على أربع قيم محورية هي: المساواة، والحرية، والمشاركة، والمسئولية الاجتماعية[2].
ويمكن القول إن فكرة المواطنة الغربية قد لخصها كلولوفور في قوله لا يوجد إنسان واحد فائض عن الحاجة فالوطن يضم الجميع ويحتاج الجميع‏.‏

المواطنة حقوق:
يرى البعض أنها وطبقا للصيغة اللغوية للمواطنة هي (مُفاعلة)، وهي مفهوم اعتباري شأنه شأن أي مفهوم آخر مثل الحب والسياسة.. أي أنها مشتقة من منشأ سابق عليها موجود مثل الوطن، الأرض.. فالمشرع القانوني أوالدستوري نظّمَّ العلاقة ما بين الأرض والإنسان وأعطاها عنوان (المواطنة).
إذن هي مسألة اعتبارية مشتقة من أمور سابقة عليها فهي غير منزلة من السماء ولا نابعة من الأرض مثل الشجر. ولتقريب مفهوم (الاعتبارية) نضرب مثلاً، عملية البيع والشراء.. حيث توجد مادة ويوجد بائع وكذلك مشترٍ فالعلاقة التي تنظم هذه العناصر الثلاثة غشاً اوصدقاً هي علاقة اعتبارية.
فالمواطنة قوتها وضعفها بقوة وضعف مناشئ الانتزاع، فكما يوجد بيع سليم وآخر باطل، كذلك توجد مواطنة قوية وأخرى خاملة، بينما لا يوجد كرسي يسمى فاسد وآخر سليم. فالمواطنة هي علاقة الإنسان بهذا الوطن وهي قضية اعتبارية خاضعة للتطور وخاضعة للارتفاع والهبوط من خلال نوعية العلاقة بين هذا الإنسان والأرض أوالمجتمع. فلو افترضنا أن هذا الوطن بدساتيره ومواقفه السياسية أساء للإنسان الذي يعيش على أرضه، نجد أن علاقة المواطنة تضعف بطبيعة الحال. ولذا المواطنة ليست شيئاً مقدساً أوأثيرياً أومثالياً، فعلاقة المواطنة تشتد أو تقوى إذا أعطي لهذا الإنسان حقوقه واستجيب لحاجاته الأساسية. فالوطن بهذا المعنى ليس هو الأرض وإنما هو النظام السياسي الذي يعطي لصفة مواطنيه الثبات والاستقرار.
يمكننا أن نخلص من كل ما سبق أن المواطنة هي كلمة تدل على طبيعة العلاقة العضوية التي تربط ما بين الفرد والوطن الذي يكتسب جنسيته، وما تفرضه هذه العلاقة أوالجنسية من حقوق وما يترتب عليها من واجبات تنص عليها القوانين والأعراف،وتتحقق بها مقاصد حياة مشتركة يتقاسم خيراتها الجميع.
مع أن المواطنة تتسع باتساع الدولة إلا أن الدولة باعتبارها كياناً معترفاً به جغرافياً وسياسياً قد تضم مواطنين لهم جنسيات أخرى وليست لهم التزامات المواطنين ذاتها، وبالمثل فهم لا ينتفعون بالامتيازات ذاتها التي ينتفع بها المواطنون وفي كل الأحوال ترتبط المواطنة بالدولة القائمة التي لها سلطات إدراية ولها نظم عاملة، ولها دستور وقوانين ولم تعد المواطنة محصورة في ولاء عشائري ولا قبلي ولا طائفي ولا عرقي ولا طبقي.. بل يتجاوز الولاء هذه الأطر الضيقة ليرتبط بالوطن الأم الحاضن للجميع.
ويذهب الباحثون فى علم الاجتماع الى تعريف المواطنة في المجتمع الحديث نموذجياً (أي كنموذج نظري) على أنها علاقة اجتماعية تقوم بين الأفراد والمجتمع السياسي (الدولة)، حيث تقدم الدولة الحماية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للأفراد، عن طريق القانون والدستور الذي يساوي بين الأفراد ككيانات بشرية طبيعية، ويقدم الأفراد الولاء للدولة ويلجؤون إلى قانونها للحصول على حقوقهم. ومن مميزات هذا التعريف أنه بالإضافة إلى كونه نمطياً من الناحية النظرية فهو، في الوقت نفسه، إجرائي منهجي يتيح دراسة المواطنة وقياسها وتحديد مستوياتها والتنبؤ بأبعادها وآفاقها وتقييم وتقويم أدائها في أي مجتمع.
فمن الواضح في هذا التعريف أنه يتضمن آلية التعاقد (العقد الاجتماعي) فحين يفترض أن تكون الحكومة التي تسير الدولة هي المسؤولة عن ترسيخ الشعور بالمواطنة، فإنها إذا أخلت بشروط العقد، أي إذا لم تؤمن الحماية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأفراد ولم تساو بينهم عمليا أمام القانون، كان من الطبيعي أن يخف إحساس الأفراد بشعور المواطنة والولاء لقانون المجتمع ـ الدولة التي يعيشون في ظهرانيها ـ وأن يبحثوا عن مرجعية أخرى تحميهم، أوتقدم لهم شعورا ولوكان وهميا بهذه الحماية، كالعودة إلى الارتباط بالجذور الدينية أوالطائفية والعائلية والقبلية والعرقية والإقليمية. ولتوضيح ما هو واضح فيما نرمي إليه، دعونا نقوم بتمرين بسيط بواسطة طرح الأسئلة التالية: ‏
- ماذا يفعل المواطن الذي يتقدم لمسابقة انتقاء عمال أوموظفين حين يجد أن المواطن الآخر الأقل كفاءة أوالأقل تمتعا بشروط المسابقة قد قبل وهو غير مقبول؟ بأي جهة انتماء يستنجد وبماذا سيشعر؟ ‏
ـ ماذا يفعل أبناء المنطقة الإقليمية من الوطن عندما يشعرون بالغبن من الخدمات التنموية للدولة في منطقتهم مقارنة بمناطق أخرى من البلاد؟
ـ ما نوع الانتماء الذي يشعر الناس به أوالذي سينمو لديهم، والى أين يتوجهون باختياراتهم، عندما يجدون القوائم الانتخابية مهيأة على أساس الطائفة أوالعشيرة أوالقبيلة، ولوكانت باسم أحزاب ومنظمات وقنوات حديثة، أو عندما يصر المرشح على الإيحاء بعشيرته أوقبيلته في إعلانه الانتخابي؟ كيف للمواطن أن يستشعر حس المواطنة وهو يسمع ويرى أن الوطن يتم اختزاله بفئة معينة وأن المسؤولية بيد فئة دون فئة؟
ـ ما نوع الانتماء والشعور الذي سيستمر لدى الناس المهاجرين إلى ضواحي المدن الكبرى وأطواق الفقر عندما لا يجدون العمل ولا يتمتعون بالخدمات التي يتمتع بها مواطنوهم في المدينة نفسها؟ وما دلالة تجمعهم على أسس طائفية أومناطقية أوعرقية؟

المواطنة مسؤوليات وواجبات:
يرى البعض أن المواطنة ما هي إلا المشاركة النشطة في جماعة أوعدد من الجماعات، وتتضمن الإحساس بالارتباط والولاء لمفهوم الدولة أوالنظام المدني Order Civic وليس شخص ملك أورئيس وتقوم على فكرة الانتماء والأشياء المشتركة، وهوما يعني أن المواطنة هي عضوية نشطة في مجتمع سياسي في إطار من الحقوق والمسئوليات التي يحددها الدستور والقانون.
وقد استدعى مفهوم المواطن بناء مؤسسات المواطنة (أحزاب، جمعيات، تنظيمات) ليتشكل فيها، ويتدرب في إطارها، ويعبر من خلالها عن مشاغله. فتأسست – بالتالي – علاقات المواطنة التي كسرت حيز علاقات القربى الهرمية، لتعبر عن المساواة بين البشر أمام القانون، ولتستشرف إمكانات التجاوز. ويمثل المواطن بالتالي حيز المجال العام المدني؛ فهو النقطة المحورية لأي تبادل نوعي بين البشر، وهو الفرد القيمة الذي بحبه لذاته يحب الآخرين، وببحثه عن منافعه الخاصة يحقق المنافع العامة[3].
وفي دراسة حديثة لمؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان صدرت في أكتوبر 2007 تحت عنوان المواطنة حقوق وواجبات تناولت مدى التزام المواطنين المصريين بالواجبات القانونية والإلزامية التى تفرضها المواطنة. وقد ألقت تلك الدراسة الضوء على الجرائم التي رصدتها المؤسسة والتى تمثل فى مجملها إخلالاً من قبل بعض المواطنين في الوعى بواجبات المواطنة وذلك خلال سبعة أشهر من يناير 2007 وحتى يوليومن ذات العام حيث رصدت الدراسة فى هذا الإطار 93 جريمة. وقد أظهرت الدراسة أن أكثر من 24% من مرتكبي الجرائم التي رصدتها الدراسة من العاطلين، كما أشارت إلى أن 18% من الجناة من العمال وأن 15% مسجلين خطر، وأن 12% من الجناة هم من العمال أصحاب الحرف الخاصة ( نجار، كهربائي..الخ)[4].
مظاهر المواطنة[5]:
1- المشاركة التطوعية والتلقائية والاختيارية على شكل أنشطة اجتماعية مختلفة نافعة .
2- التشبث بالقيم التي لها القابلية لدى الجميع .
3- تكييف السلوك حسب المعايير الوطنية والعالمية التي تؤطر الحياة الفردية والاجتماعية والثقافية .
4- توجيه السلوك الأخلاقي والشعور بالهوية والبحث عن الحقيقة وقول الحق ، التحضر واكتساب الحس المدني الرفيع ، احترام المرأة وتقديرها والعدل والتنازل والحوار وقبول الآخر ، والتعايش مع الغير والتآخي والتضامن، الاعتدال والتسامح .
5- حماية الأملاك العامة والملكية الخاصة.
6- احترام القوانين السارية المفعول.
7- احترام الديانات ومعتقدات الآخرين وثقافاتهم وآرائهم.
8- احترام حقوق وحريات الآخرين و خاصة احترام النساء و الأطفال
9- خدمة الوطن بإخلاص والحفاظ على مكتسباته والدفاع عنه .
10- محاربة الفساد والإبلاغ عن كل عمل ضار .
11- أداء الالتزامات والأعباء المالية والواجبات الضريبية.
12- المبادرة إلى المشاركة في الواجبات التضامنية .
13- المشاركة في الانتخابات والترغيب في هذه الواجبات والحقوق وهذا يدفعنا إلى الحديث عن مقتضيات المواطنة.
المواطنة والعولمة:
في ظل المفهوم الجديد للعولمة وما أتت به من تحولات سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية وتقنية فقد أصبح العالم وطننا الأكبر أوكما يقال قريتنا الكوكبية التي نسكن فيها ومن ثم ظهر ما يعرف بالمواطنة العظمى أو المواطنة العالمية (Global Citizenship). والمواطنة بمفهومها القومي لها قيمها وبمفهومها العولمي لها قيم خاصة بها؛ فالمواطنة من مفهومها القومي لها قيمها مثل: الولاء، وحب الوطن، وخدمة الوطن بإخلاص والتعاون والمشاركة في الأمور العامة بين المواطنين. أما المواطنة بمفهومها العولمي فهي تتطلب: السلام، والتسامح الإنساني واحترام ثقافات الآخرين وتقديرها والتعايش مع كل الناس، كذلك التعاون مع هيئات ونظم وجماعات وأفراد في كل مجال حيوي كالغذاء والأمن والتعليم والعمل والصحة.
وإذا كان سؤال المواطنة في الماضي يركز على كيفية إدماج الأفراد كمواطنين ضمن إطار الدولة الحديثة، فإن سؤال المواطنة الآن ينصب على ما يبدو ، على معالجة عجز الدولة الحديثة عن بناء المواطنة والحفاظ عليها بسبب عدم قدرتها على دمج الأفراد وتحقيق المساواة والعدل بين الجميع[6].
ولم يعد مفهوم المواطنة بصورته البسيطة الذي يعني "صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات في إطار الدولة القومية التي يحمل جنسيتها"يستجيب للتحولات المهمة التي تمر بها المجتمعات الأوروبية حاليا ومن أهمها: بروز ظاهرة التعددية الثقافية نتيجة للهجرة العالمية المتزايدة مع قدوم العولمة، فضلا عن تعرض دعائم الدولة القومية للاهتزاز بسبب تنامي النزعات العرقية والقومية، وكذلك ظهور التكتلات السياسية الإقليمية الكبيرة كالاتحاد الأوروبي، والتي وفرت فرصا للانتماء إلى كيانات وجماعات سياسية أكبر وطرح أسئلة عن مصير المواطنة القطرية في ظل هذه الكيانات الجديدة، بالإضافة إلى النمو المتسارع للمجتمع المدني العالمي بتجلياته المختلفة، والذي أخذ يعيد للأذهان مفهوم المواطنة العالمية التي كانت ولا تزال حلم الفلاسفة والمفكرين، وأخيرا وليس آخرا دخول الفردية كتصور مثالي لتجسيد حرية وكرامة الفرد، في أزمة حادة نتيجة للتطرففي ممارستها إلى حد تهديد نسق القيم الذي يحكم العقد الاجتماعي، مما أثر على التضامن الذي يمثل أساسا وقاعدة في أي مجتمع سياسي[7].
والمواطنة بمفهومها العالمي لا تمسح أو تلغى المواطنة بمفهومها القومي فبدون تلك الأخيرة لا وجود للمواطنة بمفهومها العالمي فكلاهما يعاضد الأخر.
المواطن العالمي شخص حضاري يعتبر العالم كله وطنا له وهوشخص يمتنع عن التركيز علي الولاءات القبلية أوالعرقية أوالقومية. هو مرتاب -بصفة خاصة- في استخدام هذه الولاءات كمعيار في التدابير الأخلاقية، ولن يحس بأي شعور للاستعلاء لهويته الثقافية أوالعرقية، ولكنه يري نفسه جزءا مركبا من عدة إمكانات تشكل هويته. إنه يمكن أن يعلم الناس أن يكونوا مواطنين عالميين نسبيا ومتسامحين. وما لم تأخذ المؤسسات التعليمية في الحسبان الحاجة الجديدة إلي تنمية التسامح فإن التصادم والصراع قائم أويزيد وعلي ذلك يجب علي المدارس والجامعات أن تركز بإرادة قوية علي الأهداف العامة لتعليم الأطفال كي يصبحوا مواطنين أكثر عالمية وتسامحا وأن يكونوا أكثر استعداداً للمواطنة العالمية. وهو ما يتطلب تجديد الانتباه لأهداف المؤسسات التعليمية ودمجها الواضح بالمواطنة العالمية عند تحديد جودتها ونوعيتها. إن هذا يعكس الوضوح الأخلاقي الذي يعبر عنه مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كوسيلة أفضل لخلق ظروف للسلام الدائم‏,‏ ويمكن أن ينجح التعليم العالمي للتسامح وحقوق الإنسان في حالة إذا ما تم في وقت واحد في جميع الأماكن والتقدم في التعليم من أجل المواطنة العالمية يجب أن يتم في الوقت نفسه في أماكن مختلفة؛ لأنه من الخطورة الشديدة أن يتم الالتزام من جانب واحد يتعلم الأطفال التسامح والقيم العالمية بينما تشيع بعض الدول الكراهية في نفوس الأطفال.

المواطنة والانتماء:
هناك فارق كبير بين المواطنة والانتماء‏,‏ فالمواطن هو الذي يحصل علي جنسية دولة ما‏,‏ بصورة قانونية‏,‏ ولأسباب يحددها هو‏,‏ ولمصالح يسعي الي تحقيقها من وراء حصوله علي جنسية هذه الدولة‏,‏ أما الانتماء فمصدره الارتباط بهذا البلد الذي يحمل جنسيته‏,‏ فهو يرتبط بهذا البلد بوجدان وتاريخ وماض وحاضر ومستقبل‏.‏
فالحصول علي جنسية دولة ما هو إلا إجراء قانوني‏,‏ يتطلب من الراغب في التجنس ان يستوفي متطلبات محددة منها‏:‏ الزواج ممن يحمل جنسية هذه الدولة‏,‏ أو الإقامة لفترة محددة‏,‏ أو أن يكون قد ولد في هذا البلد حتي ولو كان والداه لا يحملان جنسية هذا البلد‏,‏ أو أن يكون قد استثمر في هذا البلد مبلغا مشروطا من المال‏,‏ أو ان يكون ابنا لأم تحمل جنسية هذه الدولة‏,‏ وغيرها من الاشتراطات القانونية التي تؤهل هذا الشخص للحصول علي جنسية دولة ما‏,‏ وفي هذا الاطار فإننا نجد الكثير من المفارقات الغريبة التي تقطع بأن الحصول علي جنسية دولة ما‏,‏ تحمل صفة الاختيار‏:‏ فالقادر في هذه الأيام يمكنه ان يحصل لابنه علي جنسية الولايات المتحدة الأمريكية اذا ما أرسل زوجته لتضع طفلها في أحد مستشفياتها ليؤمن له مستقبلا مضمونا كمواطن امريكي‏,‏ والمقامر يدرج اسمه في يانصيب أو لوتارية الجنسية الأمريكية التي تمنح فيها الولايات الأمريكية الجنسية لعدد محدد من الأفراد كل عام يختارون علي أساس عشوائي من مجمل الأسماء المتقدمة للحصول علي الجنسية‏,‏ والمتميز علميا أو أكاديميا أو في التخصصات الخاصة أو النادرة تستقطبه الدول الكبري ـ وتحديدا الغربية ـ للاستفادة منه بالحصول علي منتج بشري متميز وجاهز لمجرد منحه الجنسية ـ وهو ما يطلق عليه استنزاف العقول‏Brain Drain ‏ ـ وهي عملية تقطف فيها الدول المتقدمة العقول والكفاءات من الدول النامية‏..‏مجمل القول ان الحصول علي الجنسية هي آلية قانونية لها أهداف محددة ومرام ذاتية سواء من الأفراد أو الدول‏.‏ والمهاجر‏,‏ يرتبط بدولة المهجر برباط الانتماء‏:‏ فهناك عقد سياسي واجتماعي يربطه بموطنه الجديد.
أما الانتماء فهو إحساس يولد مع الإنسان‏,‏ ويكبر معه‏,‏ يتفرع في شرايينه‏,‏ ويعيش في وجدانه. والانتماد يتولد عن المصالح‏,‏ وارتباط المواطن ببلده يعتمد في الأساس علي ما تقدمه اليه بلده‏,‏ أو بمنطوق أكثر وضوحا بالمنافع المتبادلة بين المواطن ووطنه‏.‏ الانتماء قدر ولا يقايض‏,‏ وأنظمة الحكم وقتية والوطن ثابت‏,‏ واهتزاز معيار المواطنة لا يعني المساومة علي الانتماء‏,‏ والشعب المصري علي امتداد تاريخه لا يقبل الا بالانتماء لمصر مهما عاني من الفقر أو حتي القهر‏.

وهنا نتساءل: لماذا لانري في مصر سمة المواطنة الحقة في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر؟
إن المواطن المصري قد فقد إلي حد كبير سمة المواطنة فهو لايحترم القانون بل يخاف من الأمن‏,‏ وهو لايري أن له دورا يؤديه كمواطن‏,‏ بل هو مهمش عن المشاركة في حل المشاكل التي يمر بها وطنه‏,‏ والتي تمسه نارها وتمس حياته بصورة مباشرة ومن ثم فقد نأي بنفسه عن المشاركة السياسية كمواطن‏,‏ بعد أن شعر أنه يعاني من غربة في وطنه‏؛ فالحياة السياسية مقصورة علي حزب أوحد‏,‏ والاوضاع الاقتصادية تلتهم حياته‏,‏ والتمايز الطبقي جعله يشعر بعدم الانتماء ـ حتي في حدوده الدنيا ـ خاصة بعد أن وصل التمييز بين المواطنين إلي مرحلة شراء القادرين وذوي المراكز والمناصب لامتحانات الثانوية العامة المؤهلة لدخول بعض الجامعات الحكومية والتي كانت تتميز دوما بالتكافؤ والعدالة والشرف‏,‏ مما كان له الفضل في اتاحة الفرصة أمام غير القادرين ماديا‏,‏ أن يتفوقوا علميا ويكونوا فئة من العلماء والمتخصصين والأطباء والمهندسين والمهنيين المتخرجين من كليات القمة‏,‏ الذين ينتمون للطبقة المتوسطة ودون المتوسطة‏.‏
تعميق المواطنة:
· تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص وحظر التمييز خاصة في مجال العمل والتي تمس حياة الناس جميعاً، متضمناً وسائل التقدم للعمل وتنظيم الاختبارات لشغل الوظيفة وحق المواطن في الحصول علي شهادة تكشف النقاب عن اسباب عدم قبوله وتنظيم كافة التزامات أرباب العمل تجاه المواطن سواء كانت الحكومة أو القطاع العام أو الخاص أو الاهلي؛ لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وعدم التمييز بين المواطنين إلا علي اساس الجدارة الحقيقية مع الاهتمام بحقوق المعاقين وأصحاب الاحتياجات الخاصة في شغل وظائف حقيقية لهم والبحث في موقف الجهات التي قد تتجه إلي عدم تعيين الأقباط ونفس الوضع للجهات التي قد تعين أقباطاً دون المسلمين، وضرورة انتهاء المحسوبية والواسطة، فنحن في حاجة إلي مجتمع بلا معسكرات ذات نسيج واحد. والالتفات بجدية إلى المشكلة الطائفية في مصر؛ فقد انتهت إحدى الدراسات إلى أن هناك ثمة مشكلة طائفية حقيقية في مصر، لا يصلح معها التهوين من قبل الدولة؛ وإنما ضرورة إيجاد السبل لإعادة بناء الوطنية المصرية على أسس موضوعية[8].
· خطورة التمييز ضد المرأة في العمل، فليس من المقبول ان يرفض البعض تشغيل المرأة بسبب حصولها علي إجازات رعاية الأطفال والحمل والولادة وغيرها. يظهر مبدأ تكافؤ الفرص بالنسبة لعمل المرأة الكثير من التناقضات حتى في أوروبا؛ فدائما ما تكون المرأة هي الضحية لأن المستوي التعليمي متساو بين المرأة والرجل وبالرغم من تلك لاتزال فرص العمل للمرأة أقل ولا يزال هناك عدم مساواة بالنسبة للنساء في تولي المراكز القيادية والاقتصادية والعلمية ولايزال أجر المرأة أقل من الرجل حتي وان قام الاثنان بالعمل نفسه.
· الانتهاء من مراجعة المناهج الدراسية بواسطة الخبراء المختصين لتنقية المناهج من أي تمييز بين المواطنين مهما كانت اختلافات المكانة الاجتماعية أو الجنس أو الدين.
· ضرورة رفض التهميش لفئات فى المجتمع، مع قبول مبدأ التعددية الثقافية والتعبير عنها؛ فدولة المواطنة هى دولة القانون والحرية والعدالة. يتساوى فيها المواطنون أمام القانون. وهى قوية بوحدتها، وثرية بتعدديتها.
· نشر الديموقراطية في إطار النظام العام واحترام مصالح المجتمع ومصالح الأفراد داخله ولو اقتنعنا بحق الفرد في التعبير عن رأيه والاختلافات في الرأي والتأكيد على أنه لا يمتلك أحد الحقيقة المطلقة وهي غير موجودة إلا في الذات العليا وهي وجود الله سبحانه وتعالي فقط وهذه هي الحقيقة الوحيدة وغير ذلك هي حقائق نسبية والفكر أيضا نسبي ومن حق كل فرد أن يعتقد في شيء وأن يتحاور حوله ويختلف أو يتفق مع غيره ويجب علي المحاور أن يعترف بحق من يحاوره في الاتفاق والخلاف وحقه في إبداء الرأي. ولكل مواطن الحق في إبداء رأيه سواء اختلف أو اتفق مع الآخرين ويجب أن يعبر عن وجهة نظره بحرية كاملة طالما ان هذا الحوار لم يتعرض للكيان الوطني أو النظام العام أو صالح المجتمع.
· تغيير البرامج الإعلامية بشكل جذري؛ فالإعلام المصري لا يشجع علي إقرار وتأكيد أفكار المواطنة وأفكار المساواة بين الأفراد بعضهم بعضا فهو إعلام يفرق ويفرز بين الحاكم والمحكوم وبين الغني والفقير وبين المنتمي الى مجتمع ومجتمع آخر وهي أفكار تتنافي وفكر المساواة بين الأفراد.
[1] سعيد عبد الحافظ (تحرير)، المواطنة: حقـوق و واجـبات، مركز ماعت للدراسات الحقوقية والدستورية، القاهرة، 2008 ص ص 11-12.
[2] هاني عياد (تحرير)، المواطنة في التعليم، الهيئة القبطية للخدمات الاجتماعية، سلسلة إصدارات منتدى حوار الثقافات (26)، القاهرة، 2004 ص ص 11-12.
[3] أماني قنديل (تحرير)، الموسوعة العربية للمجتمع المدني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008 ص 106.
[4] سعيد عبد الحافظ (تحرير)، مرجع سابق، ص ص 23-25.
[5] أ.د. جعفر شيخ إدريس، مجلة البيان، العدد 211، ربيع الأول 1426 هـ.
[6] الأب وليم سيدهم اليسوعي (تحرير)، المواطنة عبر العمل الاجتماعي والعمل المدني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007 ص 18.
[7] إبراهيم أحمد إبراهيم، مفهوم المواطنة بين المحلية والعولمة: مصر نموذجا، عرض لرسالة دكتوراه بنفس العنوان للباحث قايد دياب قايد، كلية الآداب، جامعة بنها، 2006، شؤون اجتماعية، العدد 101، ربيع 2009، السنة 26 ص ص 273-274.
[8] المرجع السابق، ص 280.